الإنسان كائن سماوي... هو نسمة حياة صادرة من فم
الله... وقد بدأت مسيرته في الفردوس (جنة عدن) وستنتهي وتكمل في السموات في
حياة أبدية وعشرة دائمة مع الله الحي.
والكتاب المقدس ينبهنا دائماً
إلى هذه الحقيقة الهامة لحياتنا، لكي يرتفع دائماً ذهننا إلى السماء، ونعيش
على الأرض كما في السموات، ونستعد دائماً لهذا الميراث "الذي لا يفنى ولا
يتدنس ولا يضمحل" (1بط4:1).
أنا غريب على الأرض:
لذلك عاش الآباء دائماً
بإحساس الغرباء والنزلاء... والعابرين فكانون يسمون الأرض التي يسكنون فيها
"أرض الغربة" راجع (تك17: 8، 4:28).
وقد أجاب أبونا يعقوب عن سؤال
فرعون عن عدد سني حياته قائلاً: "أيام سني غربتي مئة وثلاثون سنة... ولم
تبلغ إلى أيام سني حياة أبائي في أيام غربتهم" (تك47: 7-9).
وهذا ما رتل
به داود في مزموره "لأني أنا غريب عندك. نزيل مثل جميع آبائي" (مز12:39)
"غريب أنا في الأرض. لا تخفِ عني وصاياك" (مز19:119).
حقاً كان الآباء مدركين هذه الحقيقة "وأقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض" (عب13:11)
وهذه
الحقيقة تجعلنا نسلك سلوكاً تقوياً يليق بمن هو سماوي. "فسيروا زمان
غربتكم بخوف" (1بط17:1). "ايها الأحباء أطلب إليكم كغرباء ونزلاء. أن
تمتنعوا عن الشهوات الجسدية التي تحارب النفس، وأن تكون سيرتكم بين الأمم
حسنة" (1بط2: 12،11).
نسعى كسفراء عن المسيح (2كو 20:5)
لقد تغربنا
على الأرض، ليكون لنا رسالة في العالم... إن وقت الغربة ليس وقتاً ضائعاً
نحتمله إضطرارياً آملين في المستقبل الأبدي... بل هو وقت إعداد لهذه
الأبدية بالشهادة للمسيح في العالم، وخدمة أهل العالم... "أنتم ملح الأرض"
(مت13:5)، "انتم نور العالم" (مت14:5)، "لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولاداً
لله بلا عيب في وسط جيل معوج وملتو تضيئون بينهم كأنوار في العالم"
(في15:2) "إسلكوا كأولاد نور" (أفس8:5).
ولكن فيما نحن نمارس سفارتنا عن المسيح ينبغي أن تكون عيوننا وقلوبنا متجهة للسماء ومتعلقة بها.
امسك بالحياة الأبدية (1تيمو12:6):
"فإن كنتم قد قمتم مع المسيح، فأطلبوا مافوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. إهتموا بما فوق لا بما على الأرض" (كو3: 2،1).
إن
المسيحية كلها تهتم بأبدية الإنسان وخلاص نفسه ولا يجب أن تزوغ أعيننا عن
هذا الهدف المقدس السامي "نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس". (1بط9:1).
بل
أن كل جهاد روحي وكل عمق مقدس يقوم به الإنسان تكون غايته النهائية هي
السماء حتى نكون "ورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه" (يع5:2).
هذا
الملكوت هو وعد من الله لأحبائه "الذي دعاكم إلى ملكوته ومجده" (1تس 12:2)،
وهو أيضاً موضوع سرور الله أن نملك فيه "لاتخف أيها القطيع الصغير، لأن
أباكم قد سر أن يعطيكم الملكوت" (1يو25:2).
لذلك فنحن نحرص دائماً على
التفكير في الأبدية والإهتمام بمصيرنا الأبدي... ولذلك تتسم الكنيسة
المسيحية بأنها كنيسة إسخاطولوجية (أخروية) تهتم بالأخرويات...
فلكم ثمركم للقداسة والنهاية حياة أبدية (رو22:6):
هذا
الإنشغال الأبدي ليس معناه إهمال واجبتنا الأرضية... بل هي كمثل طالب
مجتهد يهتم بإمتحان ونتيجة أخر العام... ولكن يُعبّر عن هذا الإهتمام
والإنشغال بأن يكون جاداً كل يوم في تحصيل العلم وإستذكار دروسه...
فنحن
نعلم أن الطريق إلى الأبدية هو الإهتمام بأمور الحياة ولكن أولاً بطريقة
مقدسة وباذلة في خدمة الآخرين. وثانياً بدون إرتباك وإنهماك وإنشغال عن
الأبدية "ليس أحد وهو يتجند يرتبك بأعمال الحياة" (2تيمو4:2) ثم يعقبها
"وايضاً إن كان أحد يجاهد، لا يكلل إن لم يجاهد قانونياً" (2تيمو5:2).
معيار دخول السماء:
بالإضافة
إلى حتمية الإيمان بالمسيح الإبن والمعمودية بإسم الثالوث والتناول من جسد
الرب ودمه... أعلن السيد المسيح أن معيار ميراث السماء هو تحقيق رسالتنا
في العالم من خلال خدمة الآخرين بما أُعطيَّ لنا من مواهب.
"ثم يقول
الملك للذين عن يمينه تعالوا إلىّ يا مباركي ابي رثوا الملك المعد لكم منذ
تأسيس العالم. لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسيقتموني، كنت غريباً فأويتموني،
عرياناً فكسوتموني، مريضاً فزرتموني، محبوساً فأتيتم إليّ...الحق أقول لكم
بما أنكم فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" (مت25: 34-40).
أما
الأشرار الذين سيطرحون في العذاب الأبدي فسيكون سبب دينونتهم أنهم لم
يتاجروا بوزناتهم وأهملوا في خدمة الآخرين "الحق أقول لكم بما أنكم لم
تفعلوه بهؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا" (مت45:25).
حقاً تنبأ هكذا دانيال
النبي "وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون. هؤلاء إلى الحياة
الأبدية وهؤلاء إلى العار للإزدراء الأبدي" (دا2:12).
ويعتبر دانيال أن
الفهم وخدمة الآخرين هي سبب المجد الذي سيلحق بالأبرار في السماء
"والفاهمون يضيئون كضياء الجلد، والذين ردوا كثيرين إلى البر كالكواكب إلى
أبد الدهور" (دا3:12).
وهذا هو أيضاً الشرط الذي وضعه الله لنوال
الحياة... "كن أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة" (رؤ10:2)، أميناً
إلى الموت في أداء كل واجب أُكلَف به... وكل خدمة يجب أن أعملها... وكل
شهادة للمسيح يجب أن أقدمها
لذلك فيما نحتفل بليتورجية الإفخارستيا...
وفيما نحن كائنين في السماء بعينها لنأكل من شجرة الحياة التي هي جسد الله
ودمه... لا ننشغل ولا ننس مسئوليتنا تجاه العالم... فنصلي من أجل خلاص
العالم ومن أجل المرضى والمسافرين والراقدين ومن أجل المياه والزروع
والأهوية، ومن أجل رئيس البلاد والحكام والجنود، ومن اجل الأرملة واليتيم
والغريب والضيف... إلخ.
لأن الكنيسة تدرك بحسها الكتابي أنها مسئولة عن خلاص العالم دون أن تنشغل كل نفس عن خلاصها الشخصي.