ما نتعلمه من الأطفال
يبدو عنوان المقال غريبا, فنحن لا نتعلم من الأطفال وإنما نعلمهم. ولكنني لا أقصد من جهة العقل. وإنما ما نتعلمه من الأطفال من جهة القلب, والروح الطيبة, والنفسية الصافية, والطباع. والمقصود بلاشك ما نتعلمه من الطفل السوي, وليس الذي ولد بميول أو طباع منحرفة.
سواء من جهة الوراثة أو لأسباب أخري... فما هو إذن ما ينبغي أن نتعلمه من الأطفال؟
أول ما نتعلمه منهم: البراءة والبساطة. فالطفل يولد بريئا, ويعيش فترة طفولته في براءة. إنه لا يعرف شرا بل لا يعرف أي نوع من الشرور. لا يعرف الخبث ولا المكر ولا الكراهية. وكل هذه من طباع الكبار التي قد يغرسونها فيه حينما يكبر, للأسف الشديد. وهو لا خبرة له أيضا للشر. وبراءة الطفل أصبحت مثلا عند الناس. وكما قال نزار القباني علي الشخص الذي يحاول أن يتظاهر بالبراءة:
اليوم عاد كأن شيئا لم يكن
وبراءة الأطفال في عينيه
نعم, إن الخداع ليس من طبيعة الأطفال وإنما هو من طبع بعض الكبار. ونحن حينما نتكلم عن براءة الأطفال حينما نقول: إن لهم الفكر البريء, والمشاعر البريئة. ولأنهم لا خبرة لهم بالشر, لذلك لا يخجلون مما يخجل منه الكبار.
ومن الصفات الجميلة عند الطفل أنه يحب المعرفة والتعليم. وهو يسأل ويريد أن يعرف. ولا يخجل من السؤال والإقرار بعدم المعرفة. وهو يقبل التعليم, وعن طريقه ينمو في المعرفة يوما بعد يوم.
أما الكبار فقد يمنعهم عن التعلم: إما كبرياء لا تريد أن تظهر أنها لا تعرف. أو يمنعهم الخجل من السؤال, أو يمنعهم الاكتفاء بما هم فيه من معرفة. وكلما كبر الإنسان في سنه أو في مركزه, فقد يخجل أيضا من التعلم. وهو لا يتدرب علي المعرفة بألا يخطئ أثناء تدربه. أما الطفل فإنه أقدر علي تعلم كل شيء. فهو مثلا أقدر علي تعلم اللغة من كبار السن. لأنه لا يخجل من أن ينطق ولو نطقا خاطئا يصححه له معلمه. بينما الكبير لا يفعل ذلك.
وأنت يا أخي القارئ حاول أن تتشبه بنمو الأطفال في المعرفة. وأقصد المعرفة النافعة لك. ومادمت قد كبرت في السن, أمامك ألوان أساسية في المعرفة غير ما يسعي إليه الطفل. عليك مثلا أن تعرف نفسك, وأن تعرف الله, وتعرف الحق, وتعرف الطريق السليم الذي يوصلك. وليكن لك التواضع الذي به تسأل وتطلب المعرفة, دون أن تخجل. ولا تتظاهر في كل شيء بأنك تعرف, ودون أن تكون حكيما في عيني نفسك... إن الطفل يرتفع عن هذا المستوي. ويسأل باستمرار. ولا يشعر أن السؤال يخدش كرامته. فالطفل مرتفع عن مستوي هذا الاهتمام الضخم للكرامة.
من صفات الطفل أنه دائم النمو. فهو ينمو دائما في القامة, كما ينمو في المعرفة, وهو ينمو في أشياء كثيرة. فمن جهة القامة يصل الكبار إلي حد معين لا تنمو فيه قامتهم. ولكنهم من جهة النمو عليهم أن ينمو في مجالات أخري ينبغي أن يمارسوها. ومنها النمو في الروح والعقل, وفي المعرفة وفي الحكمة, وفي كل فضيلة وعمل صالح. إذن حاولوا أن تتعلموا من الأطفال فضيلة النمو, في المجالات المتاحة لكم.
من صفات الطفل أيضا الصدق, وعدم الشك. فهو يقول الصدق باستمرار, إلا إذا خاف من عقوبة الكبار. لذلك علي الكبار أن يطمئنوه باستمرار, ولا يصح أن يلجأوا إلي العقوبة في كل شيء إنما بالإرشاد بدلا من العقوبة. وهكذا ينزعون منه عامل الخوف الذي يكون جديدا عليه, وبالتالي يثبتونه في الصدق الذي هو طبيعته.
من طبيعة الطفل أيضا أنه يثق ولا يشك. إلا إذا خدعه الكبار, فيبدأ يشك. أما الشك فهو إذن دخيل علي طبيعته النقية. هل يستطيع الكبار أن تتنقي طبيعتهم من الشك؟ أم أن فلاسفتهم يقولون إن الشك هو الطريق إلي المعرفة! وبهذا يعلمون الأطفال الشك أيضا.
يعجبني في الطفل أيضا صفة البشاشة. فهو باستمرار بشوش ويحب البشاشة. يحب المرح, ويحب أن يضحك, ويحب من يضحكه. إنه لا يحمل أمور الدنيا فوق كتفيه كما يفعل الكبار. ولا يفكر في مشاكل اليوم ولا مشاكل الغد ولا هموم المستقبل. بل يعيش باستمرار في سلام قلبي لا يعرفه الكبار. بل هو لا يعرف كلمة مشكلة إنها لم تدخل في مفردات قاموسه اللغوي بعد. وإن حدث وصادفه شيء من الضيق, يلقي كل ذلك علي أبيه وأمه, ويستمر في نقاوة قلبه من الضيق. وحتي في أشد الأوقات خطورة, تجد البيت كله منزعجا ومتوترا ومتوقعا شرا, ما عدا الطفل. فليتك يا أخي القارئ تتشبه بما يحمله الأطفال من هدوء ومن سلام قلبي ومن فرح. وإن صادفتك مشكلة, فحاول أن تحتفظ بهدوئك, واشعر بان لها حلولا. إن لم تقدر عليها, فإن الله ـ تبارك اسمه ـ هو حلال المشاكل.
من صفات الطفل الجميلة أيضا أنه لا يحمل حقدا. قد يوجد ما يغضبه أو يضايقه أو يحزنه. ولكن هذا كله يأخذ وقته وينتهي, دون أن يخزنه في قلبه أو في مشاعره كما يفعل الكبار وما أسرع أن يتصافي ويلعب مع طفل آخر كان يتعارك معه منذ لحظات. فالطفل سريع التصالح. وقد يضربه أبوه أو أمه. وبسرعة يأتي فيرتمي في حضنهما. وفي عطفهما ينسي كل ما حدث.
والطفل يتميز بعمق الإيمان ويقبل كل حقائق الإيمان. دون أدني شك. إنه يولد مؤمنا. نقول له نصلي, فيصلي. قل يارب, فيقول, دون أن يسأل من هو الله؟ وما هي السماء؟
ومع كل ذلك أسمع من بعض الأمهات الشكوي من اشقاوة الأطفال, إن ما يسمي بكلمة شقاوة هو نوع من نشاط للطفل الذي يريد أن يتحرك ويجري ويتكلم. وعلي الرغم من كل ما قلناه قد يوجد للطفل بعض الأخطاء مما يترسب فيه من البيئة ومن تربية خاطئة. أما طبيعة الطفل الفاضلة فهي أمثولة طيبة وقدوة صالحة للكبار.