"قد عرفت أن كل ما يعمله الله أنه يكون إلى الأبد" (جا 14:3).
هذه
سمة أساسية تميز أعمال الله. أنها أعمال أبدية لا تنتهى... فإذا كنا نؤمن -
بغير شك - أن المسيح هو الله المتجسد، فأعماله - بلا شك أعمال إلهية أبدية
لا تنتهى.. وبالتالى فإن ذبيحة الصليب ذبيحة أبدية لا تنتهى حتى أن الملاك
المبشر بالقيامة ذكر أنه "يسوع الناصرى المصلوب" (مر 6:16)، حتى بعد
قيامته... ولا عجب فقد رآه يوحنا الرائى "خروف قائم كأنه مذبوح" (رؤ 6:5)،
ومعلمنا بولس يتكلم مع شعبه فى كورنثوس قائلاً: "لأنى لم أعزم أن أعرف
شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً" (1كو 2:2).
هذا الصليب الدائم والمستمر والأبدى يتجلى كل يوم على المذبح القدس فنرى يسوع "حملاً قائماً كأنه مذبوح".
المسيح ذبيحة حقيقية :
إن
كل ذبائح العهد القديم من موسى وما قبل موسى لم تكن إلا رمزاً وإشارة
للذبيحة الحقيقية التى قدمها ربنا يسوع بدم نفسه (عب 12:9) وقد سبق أن
إشارة النبوات إلا هذا الذبيح العظيم "مثل شاه سيق إلى الذبح ومثل خروف
صامت أمام الذي يجزه هكذا لم يفتح فاه. فى تواضع انتزع قضاؤه وجيله من يخبر
به. لأن حياته تنتزع من الأرض" (أع 32:8،33). وعندما تساءل الخصى "عمن
يقول النبى هذا. عن نفسه أم عن واحد أخر. ففتح فيلبس فاه وأبتدأ من هذا
الكتاب فبشره بيسوع" (أع 34:8،35)، أنه الرب يسوع الذى شهد عنه المعمدان
قائلاً: "هوذا حمل الله الذى يرفع خطية العالم" (يو29:1) والذى تكلم عنه
أرميا بروح النبوة: "وأنا كخروف داجن يساق إلى الذبح" (أر 19:11)، وذبيحة
يترنم بها السمائيون "لأنك ذبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب
وأمة" (رؤ 9:5)، "مستحق هو الخروف أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة"
(رؤ 12:5)، ونتغنى بها فى القداس الغريغورى: "أتيت إلى الذبح مثل خروف حتى
إلى الصليب"، "احتملت ظلم الأشرار. بذلت ظهرك للسياط. وخديك أهملتهما للطم.
لأجلى يا سيدى لم ترد وجهك عن خزى البصاق"، وقد استعارت الليتورجيا هذا
النصوص من نبوة أشعياء القائل: "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر
فنشتهيه محتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا.
محتقر فلم نعتد به. ولكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مصاباً
مضروباً من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا
تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه
والرب وضع عليه إثم جميعنا. ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاه تساق إلى
الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه... من الضغطة ومن الدينونة
أخذ. وفى جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء أنه ضرب من أجل ذنب شعبى.
وجعل مع الأشرار قبره ومع غنى عند موته. على أنه لم يعمل ظلماً ولم يكن فى
فمه غش. أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن. وإن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلاً
تطول أيامه ومسرة الرب بيده تنجح. من تعب نفسه يرى ويشبع. وعبدى البار
بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها... لذلك اقسم له بين الأعزاء ومع
العظماء يقسم غنيمة من أجل أنه سكب للموت نفسه وأحصى مع أثمة وهو حمل خطية
كثيرين وشفع فى المذنبين" (أش 2:53-12)، "بذلت ظهرى للضاربين وخدى للناتفين
وجهى لم استر عن العار والبصق"
(أش 6:50).
عجيب أشعياء هذا المفتوح العينين الذى سبق ورأى يوم ابن الإنسان فتهلل ووصفه كرؤيا العين فحق بذلك أن يكون النبى الإنجيلى.
"مقدسة ومملوءة مجداً هذه الذبيحة التى ذبحت عن حياة
العالم كله" (قسمة الملائكة)، "هكذا بالحقيقة تألم كلمة الله بالجسد وذبح
وانحنى بالصليب" (القسمة السريانية).
الإفخارستيا ذبيحة غير دموية :
إن
الإفخارستيا التى سلمها المسيح لتلاميذه هى امتداد الصليب، ولكنها ليست
تكرار للصليب لأن السيد المسيح قد صلب مرة واحدة لأجلنا "نحن مقدسون بتقديم
جسد يسوع لمسيح مرة واحدة" (عب 10:10)، وصليبه لم ينته بعد ولن ينتهى بل
هو فعل أبدى - كما ذكرنا.. لذلك فالصليب يحضر كل يوم على المذبح فى سر
الخبز والخمر اللذين أخذا قوتهما من قول السيد المسيح: "هذا هو جسدى، هذا
هو دمى". وهنا تكون طبيعة الخبز والخمر صارت بالتقديس والإيمان هى ذات
المسيح المذبوح لله دون إقحام الحواس. ودون تغيير فى المادة وشكلها وطعمها
فنحن نتناول جسد الرب ودمه بالحق تحت أعراض الخبز والخمر "أظهر وجهك مع هذا
الخبز" (صلاة التحول).
وهذا مما يجعل الليتورجيا تلح وتؤكد على أن هذه الذبيحة
ليست دموية (كالعهد القديم) ولكنها ذبيحة روحية نطقية عقلية حقيقية "هذه
التى ليس دم الناموس حولها ولا بر الجسد لكن الخروف روحى، والسكين نطقية
وغير جسمية" (صلاة الصلح باسيلى)، "الذبيحة الناطقة غير الدموية" (صلاة
الحجاب)، "هذه الصغيرة المقدسة الناطقة الروحانية غير الدموية" (صلاة صلح
كيرلس)، "هذه الذبيحة الناطقة وهذه الخدمة غير الدموية" (القداس الكيرلسى)،
"ذبيحة ناطقة سمائية التى هى الجسد الإلهى والدم الكريم اللذان لمسيحك"
(القسمة الوجيزة)، "الذى قبل من أيدينا نحن الضعفاء هذه الذبيحة العقلية
والحقيقية وغير الدموية".
والسيد المسيح أمرنا أن "اصنعوا هذا لذكرى" (لو 19:22)،
وقوله: "اصنعوا" هنا يعنى "فعلاً" وليس "فكراً" للذكرى، والمعنى أن نصنع
ونفعل ما عمله المسيح فى الإفخارستيا على رسم الصليب وما تم فيه، فهنا
الإفخارستيا تعنى استحضار فعل الذبح وسفك الدم ليس لمجرد الذكر أو الذكرى
بل الاستحضار الفعلى للاشتراك فى ذات السر، فكلما أكلنا الإفخارستيا وشربنا
الكأس المقدسة فنحن نمارس الكسر الحقيقى للجسد والسفك الحقيقى للدم أى
الصليب بكل أسراره الإلهية دون أن نسفك دماً جديداً ودون أن نذبح فصحاً
آخر... هذا ما تعنيه الليتورجى بأن الذبيحة ليست دموية.. فخبز الإفخارستيا
فعل وليس فكراً: أكل جسد ممزق مع أنه كان فى يده خبزاً، وشرب دم مسفوك مع
انه خمر فى الكأس، فهو إعلان وأستعلان لسر موت الرب الدائم بالإيمان دون
الاعتماد على الحواس بالتمزيق والسفك ومستمراً بطول الزمان إلى المنتهى.
المسيح هو الكاهن الذى قدم ذاته :
"هذا
الذى أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسه. فإشتمه أبوه الصالح
وقت المساء على الجلجثة. فتح باب الفردوس ورد آدم إلى رئاسته مرة أخرى..
من قبل صليبه وقيامته المقدسة ورد الإنسان مرة أخرى إلى الفردوس" (الأرباع
الخشوعية فى دورة البخور).
"أنت هو ذبيحة المساء الحقيقية الذى اصعدت ذاتك من أجل خطايانا على الصليب المكرم كإرادة أبيك الصالح" (سر بخور عشية).
"وسبقت أن تجعل ذاتك حملاً بغير عيب عن حياة العالم" (أوشية التقدمة).
"بذل ذاته فداء عنا إلى الموت الذى تملك علينا" (القداس الباسيلى).
"لأنك فى الليلة التى أسلمت فيها ذاتك بإرادتك وسلطانك وحدك" (القداس الغريغورى).
"يا الله الذى أسلم ذاته عنا خلاصاً من أجل خطايانا" (القداس الغريغورى).
"وبذلك ذاتك للذبح من أجل خطايانا، شفيتنا بضرباتك وبرئنا بجراحاتك" (صلاة بعد التناول).
فالمسيح قبل الصليب بإرادته.. بل لقد جاء متجسداً لأجل أن
يقدم ذاته ذبيحة عنا "لهذا قد ولدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم" (يو
37:18)، وقال لبيلاطس: "لم يكن لك على سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من
فوق" (يو 11:19)، ولذلك فقد سبق الصليب وأعطانا جسده المكسور ودمه المسفوك
ليعلن بذلك أن ما حدث يوم الجمعة سبق وأن قبله بإرادته ونفذه بحريته يوم
الخميس "الحكمة (المسيح) بنت بيتها... ذبحت ذبحها مزجت خمرها. أيضاً رتبت
مائدتها... هلموا كلوا من طعامى واشربوا من الخمر التى مزجتها" (أم 2:9-5)،
"دم المسيح الذى بروح أزلى قدم نفسه لله بلا عيب" (عب 14:9)، "ليبطل
الخطية بذبيحة نفسه" (عب 26:9).
فالمسيح إلهنا هو الذبيحة الحقيقية وهو الكاهن الذى قدم
ذبيحة نفسه وهو الله قابل الذبيحة ومعطى الغفران بموجبها لكل من يشترك فيها
بالأكل والشرب والإيمان
المسيح حاضر على المذبح :
"هوذا كائن معنا على هذه المائدة اليوم عمانوئيل إلهنا حمل الله الذى يحمل خطية العالم كله الجالس على عرش مجده" (صلاة القسمة).
ويتجلى المسيح الذبيح عندما يرفع أبونا الإبروسفارين فنرى
الخبز الموضوع فى الصينية (حمل الله) ويشهد الشماس فى لحن (اسبازيستى)
"ارفعوا أعينكم ناحية الشرق لتنظروا المذبح. جسد ودم عمانوئيل إلهنا
موضوعين عليه"..
ويعلن الأب الكاهن للشعب "الرب معكم" ويطلب منهم "ارفعوا
قلوبكم - اشكروا الرب".. وتصل الليتورجيا إلى قمة إستعلان حضور المسيح
الإفخارستى عند حلول الروح القدس على الخبز والخمر ليحولها إلى جسد الرب
ودمه حينئذ يخلع الأب البطريرك أو الأسقف تاجه ويترك عصا الرعاية (الحية
النحاسية) ولا يعود الكاهن تلتفت للوراء أو يرشم الشعب أو يرشم الذبيحة لأن
المسيح رئيس الكهنة الأعظم قد حضر معنا على المائدة المقدسة وهو الذى يقوم
بمباركة الشعب وتقديس ذبيحة نفسه.
ويتقدم الكاهن ثالثة ليقدم أواشى
للمسيح الذبيح.. إذ - كما شرحنا من قبل - كلما استعلن المسيح فى الكنيسة
بهيبة الكاهن بطلبات - الأواشى الشعب واحتياجاته... مرة فى عشية وباكر
(المسيح المحتجب) ومرة فى الإنجيل (المسيح المعلم) هنا للمرة الثالثة
(المسيح الذبيح).
ومجىء المسيح للكنيسة يستدعى حضور مجمع القديسين معه...
لأننا جميعاً - فى السماء وعلى الأرض - أعضاء جسده المقدس.. فحضوره يستلزم
حضور أعضائه... لذلك ينتبه الأب الكاهن ويقدم صلوات عد ومع مجمع القديسين
ويطلب سؤلاتهم عنا - علامة الشركة والاتحاد والحب مثالاً للثالوث المقدس
الواحد.
وفى النهاية المجمع يذكر الأب الكاهن آبائنا وأخوتنا
الذين سبقوا فرقدوا وتنيحوا فى الإيمان الأرثوذكسى ونحن أيضاً الغرباء أن
يحفظنا فى الإيمان وأن نكمل مثلهم...
ثم يقسم الكاهن الجسد تمهيداً لتوزيع على المؤمنين..
والقسمة ترمز لآلام المسيح وتمزيق جسده بالصليب لذلك تكون صلواتها بلحن
تذللى بخشوع..
وعندما يغمس أبونا (الأسباديقون) فى الدم المقدس ويرشم به
الجسد إنما يعلن عن جراحات المسيح حيث يضخ الكاهن الجراحات بدم المسيح...
فيظهر بالحقيقة المسيح إلهنا (حملاً قائماً كأنه مذبوح)
سيدى يسوع المذبوح عنى... هوذا جراحاتك تنزف.. ودماؤك تقطر على المذبح. وها أنا أقف حائراً أمام حبك.. ألتمس قطرة من نزيف نعمتك.
قطرة واحدة تطهر أعماقى وكل كيانى.. وتغسل وتبيض ثيابى التى لوثتها بخطيتى ونجاساتى.